فصل: تفسير الآيات رقم (9- 11)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 70‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ‏(‏67‏)‏ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏68‏)‏ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ‏(‏69‏)‏ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

لما نص عظمة الله تعالى في الآية المتقدمة عقب ذلك في هذه بالتنبيه على أفعاله لتبين العظمة المحكوم بها قبل، وقوله ‏{‏لتسكنوا‏}‏ دال على أن النهار للحركة والتصرف، وكذلك هو في الوجود، وذلك أن حركة الليل متعذرة بفقد الضوء، وقوله ‏{‏والنهار مبصراً‏}‏ مجاز لأن النهار لا يبصر ولكنه ظرف للإبصار، وهذا موجود في كلام العرب إذ المقصود من ذلك مفهوم، فمن ذلك قول ذي الرمة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى *** ونمت وما ليل المطي بنائم

وليس هذا من باب النسب كعيشة راضية ونحوها‏.‏ وإنما ذلك مثل قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

أما النهار ففي قيد وسلسلة *** والليل في بيت منحوت من الساج

فجعل الليل والنهار بهاتين الحالتين وليس يريد إلا أنه هو فيهما كذلك، وهذا البيت لمسجون كان يبيت في خشبة السجن، وعلى أن هذا البيت قد ينشد «أما النهار» بالنصب، وفي هذه الألفاظ إيجاز وإحالة على ذهن السامع لأن العبرة هي في أن الليل مظلم يسكن فيه والنهار مبصر يتصرف فيه، فذكر طرف من هذا والطرف الآخر من الجهة الثانية ودل المذكوران على المتروكين، وهذا كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 171‏]‏‏.‏ وقوله ‏{‏يسمعون‏}‏ يريد ويعون، والضمير في ‏{‏قالوا‏}‏ للكفار العرب وذلك قول طائفة منهم‏:‏ الملائكة بنات الله، والآية بعد تعم كل من قال نحو هذا القول كالنصارى ومن يمكن أن يعتقد ذلك من الكفرة، و‏{‏سبحانه‏}‏‏:‏ مصدر معناه تنزيهاً له وبراءة من ذلك، فسره بهذا النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله ‏{‏هو الغني‏}‏ صفة على الإطلاق أي لا يفتقر إلى شيء من الجهات، و«الولد» جزء مما هو غني عنه، والحق هو قول الله تعالى ‏{‏أنتم الفقراء إلى الله‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 15‏]‏، وقوله ‏{‏ما في السماوات‏}‏، أي بالملك والإحاطة والخلق، و‏{‏إن‏}‏ نافية، و«السلطان» الحجة، وكذلك معناه حيث تكرر من القرآن، ثم وقفهم موبخاً بقوله ‏{‏أتقولون على الله ما لا تعلمون‏}‏، وقوله ‏{‏قل إن الذين يفترون على الله‏}‏ الآية، هذا توعد لهم بأنهم لا يظفرون ببغية ولا يبقون في نعمة إذ هذه حال من يصير إلى العذاب وإن نعم في دنياه يسيراً، وقوله‏:‏ ‏{‏متاع‏}‏ مرفوع على خبر ابتداء، أي ذلك متاع أو هو متاع أو على الابتداء بتقدير‏:‏ لهم متاع، وقوله ‏{‏ثم إلينا مرجعهم‏}‏ إلى آخر الآية توعد بحق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ‏(‏71‏)‏‏}‏

تقدم في الأعراف الكلام على لفظة ‏{‏نوح‏}‏ و«المقام» وقوف الرجل لكلام أو خطبة أو نحوه، و«المُقام بضم الميم إقامته ساكناً في موضع أو بلد، ولم يقرأ هنا بضم الميم و» تذكيره «‏:‏ وعظه وزجره، والمعنى‏:‏ يا قوم إن كنتم تستضعفون حالي ودعائي لكم إلى الله فإني لا أبالي عنكم لتوكلي على الله تعالى فافعلوا ما قدرتم عليه، وقرأ السبعة وجهور الناس وابن أبي إسحاق وعيسى‏:‏» فأجمعوا «من أجمع الرجل على الشيء إذا عزم عليه ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

هل أغدونْ يوماً وأمر مجمع *** ومنه قول الآخر‏:‏ ‏[‏الخفيف‏]‏

أجمعوا أمرهم بليلِ فلما *** أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء

ومنه الحديث ما لم يجمع مكثاً ومنه قول أبي ذؤيب‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

ذكر الورود بها فأجمع أمرَهُ *** شوقاً وأقبلَ حينه يتتبع

وقرأ نافع فيما روى عنه الأصمعي وهي قراءة الأعرج وأبي رجاء وعاصم الجحدري والزهري والأعمش» فاجمَعوا بفتح الميم من جمع إذا ضم شيئاً إلى شيء، و‏{‏أمركم‏}‏ يريد به قدرتكم وحياتكم ويؤيد هذه القراءة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتولى فرعون فجمع كيده‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 60‏]‏ وكل هؤلاء نصب «الشركاء»، ونصب قوله‏:‏ ‏{‏شركاءكم‏}‏، يحتمل أن يعطف على قوله ‏{‏أمركم‏}‏، وهذا على قراءة «فاجمعوا» بالوصل، وأما من قرأ‏:‏ «فأجمعوا» بقطع الألف فنصب «الشركاء» بفعل مضمر كأنه قال‏:‏ وادعوا شركاءكم فهو من باب قول الشاعر‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

شراب اللبان وتمر وأقط *** ومن قول الآخر‏:‏ ‏[‏مجزوء الكامل مرفل‏]‏

ورأيت زوجك في الوغى *** متقلداً سيفاً ورمحا

ومن قول الآخر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

علفتها تبناً وماء بارداً *** حتى شَأت همالة عيناها

وفي مصحف أبي بن كعب‏:‏ «فأجمعوا وادعوا شركاءكم»، قال أبو علي‏:‏ وقد ينتصب «الشركاء» بواو «مع»، كما قالوا جاء البريد والطيالسة، وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن وابن أبي إسحاق وعيسى وسلام ويعقوب وأبو عمرو فيما روي عنه «وشركاؤكم» بالرفع عطفاً على الضمير في ‏{‏أجمعوا‏}‏، وعطف على الضمير قبل تأكيده لأن الكاف والميم في ‏{‏أمركم‏}‏ ناب مناب أنتم المؤكد للضمير، ولطول الكلام أيضاً، وهذه العبارة أحسن من أن يطول الكلام بغير ضمير، ويصح أن يرتفع بالابتداء والخبر مقدر تقديره وشركاؤهم فليجمعوا، وقرأت فرقة «وشركائكم» بالخفض على العطف على الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏أمركم‏}‏، التقدير وأمر شركائكم، فهو كقول الشاعر ‏[‏العجّاج‏]‏‏:‏

أكل امرئ تحسبين أمراأً *** ونار توقد بالليل نارا

أي وكل نار، والمراد بالشركاء في هذه الآية الأنداد من دون الله، فأضافهم إليهم إذ يجعلونهم شركاء بزعمهم، وقوله ‏{‏ثم لا يكن أمركم عليكم غمة‏}‏، أي ملتبساً مشكلاً، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الهلال، «فإن غم عليكم» ومنه قول الراجز‏:‏

ولو شهدت الناس إذا تكمّوا *** بغمة لو لم تفرجْ غمّوا

وقوله ‏{‏ثم اقضوا إلي‏}‏ ومعناه أنفذوا قضاءكم نحوي، وقرأ السدي بن ينعم‏:‏ «ثم أفضوا» بالفاء وقطع الألف، ومعناه‏:‏ أسرعوا وهو مأخوذ من الأرض الفضاء أي اسلكوا إلي بكيدكم واخرجوا معي وبي إلى سعة وجلية، وقوله ‏{‏ولا تنظرون‏}‏ أي لا تؤخرون والنظرة التأخير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 73‏]‏

‏{‏فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏72‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

المعنى فإن لم تقبلوا على دعوتي وكفرتم بها وتوليتم عنها، و«التولي» أصله في البدن ويستعمل في الإعراض عن المعاني، يقول‏:‏ فأنا لم أسألكم أجراً على ذلك ولا مالاً، فيقع منكم قطع بي وتقصير بإرادتي، وإنما أجري على الذي بعثني، وقرأ نافع وأبو عمرو بخلاف عنه‏:‏ «أجري» بسكون الياء، وقرأ «أجريَ» بفتح الياء الأعرج وطلحة بن مصرف وعيسى وأبو عمرو،، وقال أبو حاتم‏:‏ هما لغتان، والقراءة بالإسكان في كل القرآن، ثم أخبرهم بأن الله أمره بالإسلام والدين الحنيفي الذي هو توحيد الله والعمل بطاعته والإعداد للقائه، وقوله ‏{‏فكذبوه‏}‏ الآية، إخبار من الله عز وجل عن حال قوم نوح المكذبين له، وفي ضمن ذلك الإخبار توعد للكفار بمحمد صلى الله عليه وسلم وضرب المثال لهم، أي أنتم بحال هؤلاء من التكذيب فسيكونون بحالهم من النقمة والتعذيب، و‏{‏الفلك‏}‏‏:‏ السفينة، والمفسرون وأهل الآثار مجمعون على أن سفينة نوح كانت واحدة، و‏{‏الفلك‏}‏ لفظ الواحد منه ولفظ الجمع مستو وليس به وقد مضى شرح هذا في الأعراف، و‏{‏خلائف‏}‏ جمع خليفة، وقوله ‏{‏فانظر‏}‏ مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم يشاركه في معناها جميع الخلق، وفي هذه الآية أنه أغرق جميع أهل الأرض كما قال بعض الناس لاستوى‏:‏ نوح ومحمد صلى الله عليه وسلم في البعث إلى أهل الأرض، ويرد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي» الحديث‏.‏ ويترجح بهذا النظر أن بعثة نوح والغرق إنما كان في أهل صقع لا في أهل جميع الأرض‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 75‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏74‏)‏ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

الضمير في قوله ‏{‏من بعده‏}‏ عائد على نوح عليه السلام والضمير في ‏{‏قومهم‏}‏ عائد على الرسل، ومعنى هذه الآيات كلها ضرب المثل لحاضري محمد صلى الله عليه وسلم، أي كما حل بهؤلاء يحل بكم، و‏{‏البينات‏}‏ المعجزات والبراهين الواضحة، والضمير في قوله ‏{‏كانوا‏}‏ وفي ‏{‏ليؤمنوا‏}‏ عائد على قوم الرسل، والضمير في ‏{‏كانوا‏}‏ عائد على قوم نوح، وهذا قول بعض المتأولين، وقال بعضهم‏:‏ بل تعود الثلاثة على قوم الرسل على معنى أنهم بادروا رسلهم بالتكذيب كلما جاء رسول ثم لجوا في الكفر وتمادوا فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم، وقال يحيى بن سلام ‏{‏من قبل‏}‏ معناه من قبل العذاب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذا القول بعد، ويحتمل اللفظ عندي معنى آخر وهو أن تكون «ما» مصدرية والمعنى فكذبوا رسلهم فكان عقابهم من الله أن لم يكونوا ليؤمنوا بتكذيبهم من قبل أي من سببه ومن جراه، ويؤيد هذا التأوليل قوله ‏{‏كذلك نطبع‏}‏، وقال بعض العلماء‏:‏ عقوبة التكذيب الطبع على القلوب، وقرأ جمهور الناس‏:‏ «نطبع» بالنون، وقرأ العباس بن الفضل‏:‏ «يطبع» بالياء، وقوله ‏{‏كذلك‏}‏ أي هذا فعلنا بهؤلاء، ثم ابتدأ ‏{‏كذلك نطبع‏}‏ أي كفعلنا هذا و‏{‏المعتدين‏}‏ هم الذين تجاوزوا طورهم واجترحوا ما لا يجوز لهم وهي ها هنا في الكفر، والضمير في ‏{‏بعدهم‏}‏ على الرسل، والضمير في ‏{‏ملئه‏}‏ عائد على ‏{‏فرعون‏}‏، والملأ‏:‏ الجماعة من قبيلة وأهل مدينة، ثم يقال للأشراف والأعيان من القبيلة أو البلد ملأ، أي هم يقومون مقام الملأ، وعلى هذا الحد هي في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في قريش بدر‏:‏ «أولئك» الملأ «وكذلك هي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الملأ يأتمرون بك‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 20‏]‏‏.‏ وأما في هذه الآية فهي عامة لأن بعثة موسى وهارون كانت إلى فرعون وجميع قومه من شريف ومشروف وقد مضى في ‏{‏المص‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 1‏]‏، ذكر ما بعث إليهم فيه، و» الآيات «البراهين والمعجزات وما في معناها، وقوله ‏{‏فاستكبروا‏}‏ أي تعظموا وكفروا بها، و‏{‏مجرمين‏}‏ معناه يرتكبون ما لم يبح الله ويجسرون من ذلك على الخطر الصعب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 78‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏76‏)‏ قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ‏(‏77‏)‏ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

يريد ب ‏{‏الحق‏}‏ آيتي العصا واليد، ويدل على ذلك قولهم عندهما‏:‏ هذا سحر ولم يقولوا ذلك إلا عندهما ولا تعاطوا إلا مقاومة العصا فهي معجزة موسى عليه السلام التي وقع فيها عجز المعارض، وقرأ جمهور الناس‏:‏ «لسحر مبين» وقرأ سعيد بن جبير والأعمش‏:‏ «لساحر مبين»، ثم حكي عن موسى أنه وقفهم ووبخهم بقوله ‏{‏أتقولون للحق لما جاءكم‏}‏ ثم اختلف المتأولون في قوله ‏{‏أسحر هذا‏}‏ فقالت فرقة‏:‏ هو حكاية من موسى عنهم على معنى أن قولهم كان ‏{‏أسحر هذا‏}‏ ثم اختلف في معنى قول قوم فرعون‏:‏ ‏{‏أسحر هذا‏}‏ فقال بعضهم‏:‏ قالها منهم كل مستفهم جاهل بالأمر فهو يسأل عنه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا التأويل يضعفه ما ذكر الله قبل عنهم من أنهم صمموا على أنه سحر بقولهم‏:‏ ‏{‏إن هذا لسحر مبين‏}‏ وقال بعضهم بل قالوا ذلك على معنى التعظيم للسحر الذي رأوه بزعمهم كما تقول لفرس تراه يجيد الجري‏:‏ أفرس هذا‏؟‏ على معنى التعجب منه والاستغراب وأنت قد علمت أنه فرس، وقالت فرقة غير هاتين‏:‏ ليس ذلك حكاية من موسى عنهم بل القول الذي حكاه عنهم مقدر تقديره أتقولون للحق لما جاءكم سحر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ أو نحو هذا من التقدير، ثم ابتدأ يوقفهم بقوله‏:‏ ‏{‏أسحر هذا‏}‏ على جهة التوبيخ، ثم أخبرهم عن الله تعالى أن الساحرين لا يفلحون ولا يظفرون ببغية، ومثل هذا التقدير المحذوف على هذا التأويل موجود في كلام العرب، ومنه قول ذي الرمة‏:‏

فلما لبسن الليل أو حين نصّبت *** له من خذا آذانها وهو جانح

يريد أو حين قاربن ذلك، ومنه قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 7‏]‏ المعنى بعثناهم ليسوءوا، ومثل هذا كثير شائع، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا أجئتنا‏}‏ الآية، المعنى قال قوم فرعون لموسى‏:‏ أجئتنا لتصرفنا وتلوينا وتردنا عن دين آبائنا، ويقال لفت الرجل عن الآخر إذا لواه، ومنه قولهم‏:‏ التفت فإنه افتعل من لفت عنقه، ومنه قول رؤبة‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

لفتاً وتهزيعاً سواء اللفت *** وقرأ السبعة سوى أبي عمرو فإنه اختلف عنه «وتكون» بالتاء من فوق وهي قراءة جمهور الناس، وقرأ الحسن بن أبي الحسن فيما زعم خارجة وإسماعيل، «ويكون» بالياء من تحت ورويت عن أبي عمرو وعن عاصم وهي قراءة ابن مسعود، و‏{‏الكبرياء‏}‏‏:‏ مصدر مبالغ من الكبر، والمراد به في هذا الموضع الملك، وكذلك قال فيه مجاهد والضحاك وأكثر المتأولين، لأنه أعظم تكبر الدنيا، ومنه قول الشاعر ‏[‏ابن الرقاع‏]‏‏:‏ ‏[‏الخفيف‏]‏

مؤددا غير فاحش لا تدانيـ *** ـه تجبارة ولا كبرياء

وقوله ‏{‏بمؤمنين‏}‏ بمصدقين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 82‏]‏

‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ‏(‏79‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ‏(‏80‏)‏ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏81‏)‏ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

يخبر أن فرعون قال لخدمته ومتصرفيه‏:‏ ‏{‏ائتوني بكل ساحر‏}‏، هذه قراءة جمهور الناس، وقرأ طلحة بن مصرف ويحيى بن وثاب وعيسى «بكل سحار» على المبالغة، قال أبو حاتم‏:‏ لسنا نقرأ «سحار» إلا في سورة الشعراء، فروي أنهم أتوه بسحرة الفرما وغيرها من بلاد مصر حسبما قد ذكر في غير هذه الآية، فلما ورد السحرة باستعدادهم للمعارضة خيّروا موسى كما ذكر في غير هذه الآية، فقال لهم عن أمر الله‏:‏ ‏{‏ألقوا ما أنتم ملقون‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما ألقوا‏}‏ الآية، المعنى فلما ألقوا حبالهم وعصيهم وخيلوا بها وظنوا أنهم قد ظهروا قال لهم موسى هذه المقالة،، وقرأ السبعة سوى أبي عمرو ‏{‏السحر‏}‏ وهي قراءة جمهور الناس، وقرأ أبو عمرو ومجاهد وأصحابه وابن القعقاع ‏{‏به السحر‏}‏ بألف الاستفهام ممدودة قبل ‏{‏السحر‏}‏‏.‏

فأما من قرأ ‏{‏السحر‏}‏ بغير ألف استفهام قبله ف ‏{‏ما‏}‏ في موضع رفع على الابتداء وهي بمعنى الذي وصلتها قوله ‏{‏جئتم به‏}‏ والعائد الضمير في ‏{‏به‏}‏ وخبرها ‏{‏السحر‏}‏، ويؤيد هذه القراءة والتأويل أن في مصحف ابن مسعود «ما جئتم به سحر»، وكذلك قرأها الأعمش وهي قراءة أبي بن كعب، «ما أتيتم به سحر»، والتعريف هنا في السحر أرتب لأنه قد تقدم منكراً في قولهم ‏{‏إن هذا لسحر‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 76‏]‏ فجاء هنا بلام العهد كما يقال في أول الرسالة، سلام عليك وفي آخرها والسلام عليك، ويجوز أن تكون ‏{‏ما‏}‏ استفهاماً في موضع رفع بالابتداء و‏{‏جئتم به‏}‏ الخبر و‏{‏السحر‏}‏ خبر ابتداء تقديره هو السحر إن الله سيبطله، ووجه استفهامه هذا هو التقرير والتوبيخ، ويجوز أن تكون ‏{‏ما‏}‏ في موضع نصب على معنى أي شيء جئتم و‏{‏السحر‏}‏ مرفوع على خبر الابتداء تقدير الكلام أي شيء جئتم به هو السحر، ‏{‏إن الله سيبطله‏}‏، وأما من قرأ الاستفهام والمد قبل ‏{‏السحر‏}‏ ف ‏{‏ما‏}‏ استفهام رفع بالابتداء و‏{‏جئتم به‏}‏ الخبر، وهذا على جهة التقدير، وقوله‏:‏ ‏{‏السحر‏}‏ استفهام أيضاً كذلك، وهو بدل من الاستفهام الأول، ويجوز أن تكون ‏{‏ما‏}‏ في موضع نصب بمضمر تفسيره ‏{‏جئتم به‏}‏ تقديره أي شيء جئتم به السحر، وقوله ‏{‏إن الله سيبطله‏}‏ إيجاب عن عدة من الله تعالى، وقوله ‏{‏إن الله لا يصلح عمل المفسدين‏}‏، يصح أن يكون من كلام موسى عليه السلام، ويصح أن يكون ابتداء خبر من الله تعالى، وقوله ‏{‏ويحق الله الحق‏}‏ الآية، يحتمل أن يكون من كلام موسى عليه السلام، ويحتمل أن يكون من إخبار الله عز وجل، وكون ذلك كله من كلام موسى أقرب وهو الذي ذكر الطبري، وأما قوله ‏{‏بكلماته‏}‏ فمعناه بكلماته السابقة الأزلية في الوعد بذلك، قال ابن سلام ‏{‏بكلماته‏}‏ بقوله‏:‏ لا تخف ومعنى ‏{‏ولو كره المجرمون‏}‏ وإن كره المجرمون والمجرم‏:‏ المجترم الراكب للخطر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 86‏]‏

‏{‏فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏83‏)‏ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ‏(‏84‏)‏ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏85‏)‏ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

المعنى فما صدق موسى، ولفظة ‏{‏آمن‏}‏ تتعدى بالباء، وتتعدى باللام وفي ضمن المعنى الباء، واختلف المتأولون في عود الضمير الذي في ‏{‏قومه‏}‏ فقالت فرقة‏:‏ هو عائد على موسى، وقالت فرقة هو عائد على ‏{‏فرعون‏}‏، فمن قال إن العود على موسى قال معنى الآية وصف حال موسى في أول مبعثه أنه لم يؤمن به إلا فتيان وشباب أكثرهم أولو آباء كانوا تحت خوف من فرعون وملأ بني إسرائيل، فالضمير في «الملأ» كعائد على «الذرية» وتكون الفاء على هذا التأويل عاطفة جملة على جملة لا مرتبة، وقال بعض القائلين بعود الضمير على موسى‏:‏ إن معنى الآية أن قوماً أدركهم موسى ولم يؤمنوا به وإنما آمن ذريتهم بعد هلاكهم لطول الزمان، قاله مجاد والأعمش، وهذا قول غير واضح، وإذا آمن قوم بعد موت آبائهم فلا معنى لتخصيصهم باسم الذرية، وأيضاً فما روي من أخبار بني إسرائيل لا يعطي هذا، وهيئة قوله ‏{‏فما آمن‏}‏ يعطي تقليل المؤمنين به لأنه نفى الإيمان ثم أوجبه للبعض ولو كان الأكثر مؤمناً لأوجب الإيمان أولاً ثم نفاه عن الأقل، وعلى هذا الوجه يترجح قول ابن عباس في الذرية إنه القليل لا أنه أراد أن لفظة الذرية هي بمعنى القليل كما ظن مكي وغيره، وقالت فرقة إنما سماهم ذرية لأن أمهاتهم كانت من بني إسرائيل وآباؤهم من القبط، فكان يقال لهم الذرية كما قيل لفرس اليمن الأبناء وهم الفرس المنتقلون مع وهرز بسعاية سيف بن ذي يزن، والأمر بكماله في السير، وقال السدي كانوا سبعين أهل بيت من قوم فرعون‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومما يضعف عود الضمير على «موسى» أن المعروف من أخبار بني إسرائيل أنهم كانوا قوماً قد تقدمت فيهم النبوات وكانوا في مدة فرعون قد نالهم ذل مفرط وقد رجوا كشفه على يد مولود يخرج فيهم يكون نبياً، فلما جاءهم موسى عليه السلام أصفقوا عليه واتبعوه ولم يحفظ قط أن طائفة من بني إسرائيل كفرت به فكيف تعطي هذه الآية أن الأقل منهم كان الذي آمن، فالذي يترجح بحسب هذا أن الضمير عائد على «فرعون» ويؤيد ذلك أيضاً ما تقدم من محاورة موسى ورده عليهم وتوبيخهم على قولهم هذا سحر، فذكر الله ذلك عنهم، ثم قال ‏{‏فما آمن لموسى إلا ذرية‏}‏ من قوم فرعون الذين هذه أقوالهم، وروي في ذلك أنه آمنت زوجة فرعون وخازنه وامرأة خازنه وشباب من قومه، قال ابن عباس، والسحرة أيضاً فإنهم معدودون في قوم فرعون وتكون القصة على هذا التأويل بعد ظهور الآية والتعجيز بالعصا، وتكون الفاء مرتبة للمعاني، التي عطفت، ويعود الضمير في ‏{‏ملئهم‏}‏ على «الذرية»، ولاعتقاد الفراء وغيره عود الضمير على موسى تخبطوا في عود الضمير في ‏{‏ملئهم‏}‏، فقال بعضهم‏:‏ ذكر فرعون وهو الملك يتضمن الجماعة والجنود، كما تقول جاء الخليفة وسافر الملك وأنت تريد جيوشه معه، وقال الفراء‏:‏ المعنى على خوف من آل فرعون وملئهم وهو من باب

‏{‏واسأل القرية‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا التنظير غير جيد لأن إسقاط المضاف في قوله ‏{‏واسأل القرية‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏ هو سائغ بسبب ما يعقل من أن «اسأل القرية» لا تسأل، ففي الظاهر دليل على ما أضمر، وأما ها هنا فالخوف من فرعون متمكن لا يحتاج معه إلى إضمار، إما أنه ربما احتج أن الضمير المجموع في ‏{‏ملئهم‏}‏ يقتضي ذلك والخوف إنما يكون من الأفعال والأحداث التي للجثة ولكن لكثرة استعماله ولقصد الإيجاز أضيف إلى الأشخاص، وقوله ‏{‏أن يفتنهم‏}‏ بدل من ‏{‏فرعون‏}‏ وهو بدل الاشتمال، ف ‏{‏أن‏}‏ في موضع خفض، ويصح أن تكون في موضع نصب على المفعول من أجله، وقرأ الحسن والجراح، ونبيح «أن يُفتنهم» بضم الياء، ثم أخبر عن فرعون بالعلو في الأرض والإسراف في الأفعال والقتل والدعاوى ليتبين عذر الخائفين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال موسى- إلى- الكافرين‏}‏، ابتداء حكاية قول موسى لجماعة بني إسرائيل المؤمنين منهم مؤنساً لهم ونادباً إلى التوكل على الله الذي بيده النصر ومسألة التوكل متشعبة للناس فيها خوضات، والذي أقول‏:‏ إن التوكل الذي يأمرنا له هو مقترن بتسبب جميل على مقتضى الشرع، وهو الذي في قوله صلى الله عليه وسلم «قيدها وتوكل» فقد جعله متوكلاً مع التقييد والنبي صلى الله عليه وسلم رأس المتوكلين وقد تسبب عمره كله، وكذلك السلف كله، فإن شذ متوكل فترك التسبب جملة فهي رتبة رفيعة ما لم يسرف بها إلى حد قتل نفسه وإهلاكها، كمن يدخل غاراً خفياً يتوكل فيه فهذا ونحوه مكروه عند جماعة من العلماء، وما روي من إقدام عامر بن قيس على الأسد ونحو ذلك كله ضعيف، وللصحيح منه قرائن تسهله، وللمسلمين أجمعين قال الله تعالى ‏{‏ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 198‏]‏، ولهم قال ‏{‏وعلى ربهم يتوكلون‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 2‏]‏ ليس فيه أنهم يتركون التسبب جملة واحدة ولا حفظ عن عكاشة أنه ترك التسبب بل كان يغزو ويأخذ سهمه، وأعني بذلك ترك التسبب في الغذاء، وأما ترك التسبب في الطب فسهل وكثير من الناس جبل عليه دون نية وحسبة، فكيف بمن يحتسب، وقال لهم‏:‏ ‏{‏إن كنتم آمنتم‏}‏ مع علمه بإيمانهم على جهة إقامة الحجة وتنبيه الأنفس و«إثارة الأنفة كما تقول، إن كنت رجلاً فقاتل، تخاطب بذلك رجلاً تريد إقامة نفسه، وقوله ‏{‏إن كنتم مسلمين‏}‏، يريد أهل طاعة منضافة إلى الإيمان المشروط، فذكر الإسلام فيه زيادة معنى، ثم ذكر أنه أجاب بنو إسرائيل بنية التوكل على الله والنطق بذلك، ثم دعوا في أن لا يجعلهم فتنة للظلمة، والمعنى لا تنزل بنا بلاء بأيديهم أو بغير ذلك مدة مجاورتنا لهم فيفتنون ويعتقدون إن إهلاكنا إنما هو بقصد منك لسوء ديننا وصلاح دينهم وأنهم أهل الحق، قاله مجاهد وغيره‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فهذا لدعاء على هذا التأويل يتضمن دفع فصلين، أحدهما القتل والبلاء الذي توقعه المؤمنون، والآخر ظهور الشرك باعتقاد أهله أنهم أهل الحق، وفي ذلك فساد الأرض، ونحو هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم، «ليس الميت أبو امامة اليهود والمشركين يقولون‏:‏ لو كان نبياً لم يمت صاحبه»، ويحتمل اللفظ من التأويل وقد قالته فرقة‏:‏ إن المعنى لا تفتنهم وتبتلهم بقتلنا فتعذبهم على ذلك في الآخرة وفي هذا التأويل قلق، باقي الآية بيّن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 89‏]‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏87‏)‏ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏88‏)‏ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

روي أن فرعون أخاف بني إسرائيل وهدم لهم مواضع كانوا اتخذوها للصلاة ونحو هذا، فأوحى الله إلى موسى وهارون أن اتخذا وتخيرا لبني إسرائيل بيوتاً بمصر، قال مجاهد‏:‏ ‏{‏مصر‏}‏ في هذه الآية الإسكندرية، ومصر ما بين البحر إلى أسوان، والإسكندرية من أرض مصر، و‏{‏تبوّآ‏}‏ معناه كما قلنا تخيراً واتخذا، وهي لفظة مستعملة في الأماكن وما يشبه بها، ومن ذلك قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

لها أمرها حتى إذا ما تبوأت *** لأنحامها مرعى تبوأ مضجعا

وهذا البيت للراعي وبه سمى المراعي ومنه قول امرئ القيس‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

يتبوأون مقاعداً لقتالكم *** كليوثِ غابٍ ليلهن زئير

وقرأ الناس «تبوّآ» بهمزة على تقدير تبوعا، وقرأ حفص في رواية هبيرة «تبويا» وهذا تسهيل ليس بقياسي، ولو جرى على القياس لكان بين الهمزة والألف، قوله ‏{‏قبلة‏}‏ ومعناه مساجد، قاله ابن عباس والربيع والضحاك والنخعي وغيرهم، قالوا‏:‏ خافوا فأمروا بالصلاة في بيوتهم، وقيل يقابل بعضها بعضاً، قاله سعيد بن جبير والأول أصوب، وقيل معناه متوجهة إلى القبلة، قاله ابن عباس، ومن هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «خير بيوتكم ما استقبل به القبلة»، وقوله ‏{‏وأقيموا الصلاة‏}‏ خطاب لبني إسرائيل هذا قبل نزول التوراة لأنها لم تنزل إلا بعد إجازة البحر، وقوله ‏{‏وبشر المؤمنين‏}‏ أمر لموسى عليه السلام، وقال مكي والطبري هو أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا غير متمكن وقوله تعالى ‏{‏وقال موسى‏}‏ الآية، غضب من موسى على القبط ودعاء عليهم فقدم للدعاء تقرير نعم الله عليهم وكفرهم بها، و‏{‏آتيت‏}‏ معناه أعطيت وملكت، وتكرر قوله ‏{‏ربنا‏}‏ استغاثة كما يقول الداعي بالله، وقوله ‏{‏ليضلوا‏}‏ يحتمل أن يكون لام كي على بابها على معنى آتيتهم الأموال إملاء لهم واستدراجاً فكان الإيتاء كي يضلوا ويحتمل أن تكون لام الصيرورة والعاقبة، كما قال ‏{‏فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزناً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 8‏]‏ والمعنى آتيتهم ذلك فصار أمرهم إلى كذا، وروي عن الحسن أنه قال‏:‏ هو دعاء ويحتمل أن يكون المعنى على جهة الاستفهام أي ربنا ليضلوا فعلت ذلك، وفي تقرير الشنعة عليهم‏.‏

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والحسن والأعرج وشيبة وأبو جعفر ومجاهد وأبو رجاء وأهل مكة‏:‏ «ليَضلوا» بفتح الياء على معنى ليضلوا في أنفسهم، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي والأعمش وقتادة وعيسى والحسن والأعرج بخلاف عنه «ليُضلوا» بضم الياء على معنى ليضلوا غيرهم، وقرأ الشعبي «ليِضلوا» بكسر الياء، وقرأ الشعبي أيضاً وغير «اطمُس» بضم الميم، وقرأت فرقة «اطمِس» بكسر الميم وهما لغتان، وطمس يطمس ويطمُس، قال أبو حاتم‏:‏ وقراءة الناس بكسر الميم والضم لغة مشهورة، معناه عف وغيره وهو من طموس الأثر والعين وطمس الوجوه ومنه قول كعب بن زهير‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

من كل نضاخه الذفرى إذا عرفت *** عرضتها طامس الأعلام مجهول

وروي أنهم حين دعا موسى بهذه الدعوة رجع سكرهم حجارة وزادهم ودنانيرهم وحبوبهم من الأطعمة رجعت حجارة، قاله محمد بن كعب القرظي وقتادة وابن زيد، قاله مجاهد وغيره، معناه أهلكها ودمرها، وروي أن الطمسة من آيات موسى التسع، وقوله ‏{‏اشدد على قلوبهم‏}‏ بمعنى اطبع واختم عليهم بالكفر، قاله مجاهد والضحاك، ولما أشار عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل أسرى بدر شبهه بموسى في دعائه على قومه الذين بعث إليهم في هذه الآية وبنوح في قوله ‏{‏لا تذر على الأرض من الكافريرن دياراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وقوله ‏{‏فلا يؤمنوا‏}‏ مذهب الأخفش وغيره أن الفعل منصوب عطفاً على قوله ‏{‏ليضلوا‏}‏، وقيل هو منصوب في جواب الأمر، وقال الفراء والكسائي‏:‏ هو مجزوم على الدعاء ومنه قول الشاعر ‏[‏الأعشى‏]‏‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى *** ولا تلقني إلاَّ وأنفُكَ راغمُ

وجعل رؤية العذاب نهاية وغاية، وذلك لعلمه من قبل الله أن المؤمن عند رؤية العذاب لا ينفعه إيمانه في ذلك الوقت ولا يخرجه من كفره، ثم أجاب الله هذه الدعوة في فرعون نفسه، قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏العذاب‏}‏ هنا الغرق، وقرأ الناس «دعوتكما»، وقرأ السدي والضحاك «دعواتكما»، وروي عن ابن جريج ومحمد بن علي والضحاك أن الدعوة لم تظهر إجابتها إلا بعد أربعين سنة، وحينئذ كان الغرق‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وأعلما أن دعاءهما صادق مقدوراً، وهذا معنى إجابة الدعاء، وقيل لهما ‏{‏لا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون‏}‏ أي في أن تستعجلا قضائي فإن وعدي لا خلف له، وقوله ‏{‏دعوتكما‏}‏ ولم يتقدم الدعاء إلا لموسى، وروي أن هارون كان يؤمِّن على دعاء موسى، قاله محمد بن كعب القرظي، نسب الدعوة إليهما، وقيل كنّى عن الواحد بلفظ التثنية كما قال «قفا نبكي» ونحو هذا‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف لأن الآية تتضمن بعد مخاطبتهما من غير شيء، قال علي بن سليمان قول موسى‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏ دال على أنهما دعوا معاً، وقوله ‏{‏فاستقيما‏}‏ أي على ما أمرتما به من الدعاء إلى الله، وأمر بالاستقامة وهما على الإدامة والتمادي، وقرأ نافع والناس «تتّبعانّ» بشد التاء والنون على النهي، وقرأ ابن عامر وابن ذكوان «تتبعانّ» بتخفيف التاء وشد النون، وقرأ ابن ذكوان أيضاً‏:‏ «تتّبعانِ» بشد التاء وتخفيف النون وكسرها، وقرأت فرقة «تَتبعانْ» بتخفيفها وسكون النون رواه الأخفش الدمشقي عن أصحابه عن ابن عامر، فأما شد النون فهي النون الثقيلة حذفت معها نون التثنية للجزم كما تحذف معها الضمة في لتفعلنّ بعد ألف التثنية وأما تخفيفها فيصح أن تكون الثقيلة خففت ويصح أن تكون نون التثنية ويكون الكلام خبراً معناه الأمر، أي لا ينبغي أن تتبعا، قال أبو علي‏:‏ إن شئت جعلته حالاً من استقيما كأنه قال غير متبعين‏.‏ قال القاضي أبو محمد‏:‏ والعطف يمانع في هذا فتأمله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 92‏]‏

‏{‏وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏90‏)‏ آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏91‏)‏ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

قرأ الحسن بن أبي الحسن «وجوّزنا» بشد الواو، وطرح الألف، ويشبه عندي أن يكون «جاوزنا» كتب في بعض المصاحف بغير ألف، وتقدم القول في صورة جوازهم في البقرة والأعراف، وقرأ جمهور الناس «فأتبعهم» لأنه يقال تبع وأتبع بمعنى واحد، وقرأ قتادة والحسن «فاتّبعهم» بشد التاء، قال أبو حاتم‏:‏ القراءة «أتبع» بقطع الألف لأنها تتضمن الإدراك، و«اتّبع» بشد التاء هي طلب الأثر سواء أدرك أو لم يدرك، وروي أن بني إسرائيل الذين جاوزوا البحر كانوا ستمائة ألف، وكان يعقوب قد استقر أولاً بمصر في نيف على السبعين ألفاً من ذريته فتناسلوا حتى بلغوا وقت موسى العدد المذكور، وروي أن فرعون كان في ثمانمائة ألف أدهم حاشى ما يناسبها من ألوان الخيل، وروي أقل من هذه الأعداد‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا كله ضعيف، والذي تقتضيه ألفاظ القرآن أن بني اسرائيل كان لهم جمع كثير في نفسه قليل بالإضافة إلى قوم فرعون المتبعين، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكوفيون وجماعة ‏{‏عدواً‏}‏ على مثال غزا غزاً، وقرأ الحسن وقتادة «غزواً» على مثال علا علواً، وقوله ‏{‏أدركه الغرق‏}‏ أي في البحر، وروي في ذلك أن فرعون لما انتهى إلى البحر فوجده قد انفرق ومشى فيه بنو إسرائيل، قال لقومه إنما انفلق بأمري وكان على فرس ذكر فبعث الله جبريل على فرس أنثى وديق فدخل بها البحر ولج فرس فرعون ورآه وحثت الجيوش خلفه فلما رأى الانفراق يثبت له استمر، وبعث ميكائيل يسوق الناس حتى حصل جميعهم في البحر، فانطبق عليهم حينئذ، فلما عاين فرعون قال ما حكى عنه في هذه الآية، قرأ الجمهور الناس «أنه» بفتح الألف، ويحتمل أن تكون في موضع نصب، ويحتمل أن تكون في موضع خفض على إسقاط الباء، وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو «إنه» بكسر الألف، إما على إضمار الفعل أي آمنت فقلت إنه، وإما على أن يتم الكلام في قوله ‏{‏آمنت‏}‏ ثم يتبدئ إيجاب «إنه» وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن جبريل عليه السلام قال ما أبغضت أحداً بغضي لفرعون، ولقد سمعته يقول ‏{‏آمنت‏}‏ الآية، فأخذت من حال البحر فملأت فمه مخافة أن تلحقه رحمة الله» وفي بعض الطرق‏:‏ «مخافة أن يقول لا إله إلا الله فتلحقه الرحمة»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فانظر إلى كلام فرعون ففيه مجهلة وتلعثم، ولا عذر لأحد في جهل هذا وإنما العذر فيما لا سبيل إلى علمه كقول علي رضي الله عنه، «أهللت بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم»، والحال الطين، كذا في الغريب المصنف وغيره، والأثر بهذا كثير مختلف اللفظ والمعنى واحد، وفعل جبريل عليه السلام هذا يشبه أن يكون لأنه اعتقد تجويز المغفرة للتائب وإن عاين ولم يكن عنده قبل إعلام من الله تعالى أن التوبة بعد المعاينة غير نافعة، وقوله تعالى ‏{‏الآن وقد عصيت‏}‏ الآية، قال أبو علي‏:‏ اعلم أن لام المعرفة إذا دخلت على كلمة أولها الهمزة فخففت الهمزة فإن في تخفيفها وجهين‏:‏ أحدهما أن تحذف وتلقى حركتها على اللام وتقر همزة الوصل فيه فيقال الحمر وقد حكى ذلك سيبويه، وحكى أبو عثمان عن أبي الحسن أن ناساً يقولون لحمر فيحذفون الهمزة التي للوصل فمن ذلك قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وقد كنت تخفي حب سمراء حقبة *** فبح لان منها بالذي أنت بائح

قرأ نافع في رواية ورش لم يختلف عنه «الآن» بمد الهمزة وفتح اللام، وقرأ الباقون بمد الهمزة وسكون اللام وهمز الثانية، وقرأت فرقة «الآن» بقصر الهمزة وفتح اللام وتخفيف الثانية وقرأ جمهور الناس «ألأْن» بقصر الأولى وسكون اللام وهمز الثانية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقراءات التخفيف في الهمزة تترتب على ما قال أبو علي فتأمله، فإن الأولى على لغة من يقول الحمر، وهذا على جهة التوبيخ له والإعلان بالنقمة منه، وهذا اللفظ يحتمل أن بكون مسموعاً لفرعون من قول ملك موصل عن الله وكيف شاء الله، ويحتمل أن كون معنى هذا الكلام معنى حاله وصورة خزيه، وهذه الآية نص في رد توبة المعاين، وقوله تعالى ‏{‏فاليوم ننجيك‏}‏ الآية، يقوي ما ذكرناه من أنها صورة الحال لأن هذه الألفاظ إنما قيلت بعد فرقة، وسبب هذه المقالة على ما روي أن بني إسرائيل بعد عندهم غرق فرعون وهلاكه لعظمه عندهم، وكذب بعضهم أن يكون فرعون يموت فنجي على نجوة من الأرض حتى رآه جميعهم ميتاً كأنه ثور أحمر، وتحققوا غرقه، وقرأت فرقة «فاليوم ننجيك» وقالت فرقة معناه من النجاة أي من غمرات البحر والماء، وقال جماعة معناه نلقيك على نجوة من الأرض وهي ما ارتفع منها، ومنه قول أوس بن حجر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

فمن بعقوته كمن بنجوته *** والمستكن كمن يمشي بقرواح

وقرأ يعقوب «ننْجِيك» بسكون النون وتخفيف الجيم، وقرأ أبي بن كعب «ننحّيك» بالحاء المشددة من التنحية، وهي قراءة محمد بن السميفع اليماني ويزيد البريدي، وقالت فرقة‏:‏ معنى ‏{‏ببدنك‏}‏ بدرعك، وقالت فرقة معناه بشخصك وقرأت فرقة «بندائك» أي بقولك ‏{‏آمنت‏}‏ الخ الآية، ويشبه أن يكتب بندائك بغير ألف في بعض المصاحف، ومعنى الآية أنا نجعلك آية مع ندائك الذي لا ينفع، وقرأت فرقة هي الجمهور «خلفك» أي من أتى بعدك، وقرأت فرقة «خلقك» المعنى يجعلك الله آية له في عباده، ثم بيّن عز وجل العظة لعباده بقوله ‏{‏وإن كثير من الناس عن آياتنا لغافلون‏}‏ وهذا خبر في ضمنه توعد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏93- 95‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏93‏)‏ فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏94‏)‏ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

المعنى لقد اخترنا لبني إسرائيل أحسن اختيار وحللناهم من الأماكن أحسن محل، و‏{‏مبوأ صدق‏}‏ أي يصدق فيه ظن قاصده وساكنه وأهله، ويعني بهذه الآية إحلال بلاد الشام وبيت المقدس، قاله قتادة وابن زيد، وقيل بلاد مصر والشام، قاله الضحاك، والأول أصح بحسب ما حفظ من أنهم لن يعودوا إلى مصر، على أن القرآن كذلك ‏{‏وأورثناها بني إسرائيل‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 59‏]‏ يعني ما ترك القبط من جنات وعيون وغير ذلك، وقد يحتمل أن يكون ‏{‏أورثناها‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 59‏]‏ معناه الحالة من النعمة وإن لم يكن في قطر واحد، وقوله ‏{‏فما اختلفوا حتى جاءهم العلم‏}‏ يحتمل معنيين أحدهما فما اختلفوا في نبوة محمد وانتظاره حتى جاءهم وبان علمه وأمره فاختلفوا حينئذ‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا التخصيص هو الذي وقع في كتب المتأولين، وهذا التأويل يحتاج إلى سند والتأويل الآخر الذي يحتمله اللفظ أن بني إسرائيل لم يكن لهم اختلاف على موسى في أول حاله فلما جاءهم العلم والأوامر وغرق فرعون اختلفوا‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فمعنى الآية مذمة ذلك الصدر من بني إسرائيل، ثم أوجب الله بعد ذلك أنه ‏{‏يقضي بينهم‏}‏ ويفصل بعقاب من يعاقب ورحمة من يرحم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن كنت في شك‏}‏ الآية، قال بعض المتأولين وروي ذلك عن الحسن‏:‏ أن ‏{‏إن‏}‏ نافية بمعنى ما والجمهور على أن ‏{‏إن‏}‏ شرطية، والصواب في معنى الآية أنها مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد بها سواه من كل من يمكن أن يشك أو يعارض، وقال قوم‏:‏ الكلام بمنزلة قولك إن كنت ابني فبرَّني‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وليس هذا المثال بجيد وإنما مثال هذه قوله تعالى لعيسى «أأنت قلت للناس اتخذوني»‏.‏ وروي أن رجلاً سأل ابن عباس عما يحيك في الصدر من الشك فقال ما نجا من ذلك أحد ولا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنزل عليه ‏{‏فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وذكر الزهراوي أن هذه المقالة أنكرت أن يقولها ابن عباس وبذلك أقول، لأن الخواطر لا ينجو منها أحد وهي خلاف الشك الذي يحال فيه عليه الاستشفاء بالسؤال، و‏{‏الذين يقرأون الكتب من قبلك‏}‏ هم من أسلم من بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وغيره، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية‏:‏ «أنا لا أشك ولا أسأل» وقرأ «فسل» دون همز الحسن وأبو جعفر وأهل المدينة وأبو عمرو وعيسى وعاصم، وقرأ جمهور عظيم بالهمز، ثم جزم الله الخبر بقوله ‏{‏لقد جاءك الحق من ربك‏}‏، واللام في ‏{‏لقد‏}‏ لام قسم، و‏{‏الممترين‏}‏ معناه الشاكين الذين يحتاجون في اعتقادهم إلى المماراة فيها، وقوله ‏{‏مما أنزلنا إليك‏}‏ يريد به من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في أمره إلا من بعد مجيئه، وهذا قول أهل التأويل قاطبة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا هو الذي يشبه أن ترتجى إزالة الشك فيه من قبل أهل الكتاب، ويحتمل اللفظ أن يريد بما أنزلنا جميع الشرع ولكنه بعيد بالمعنى لأن ذلك لا يعرف ويزول الشك فيه إلا بأدلة العقل لا بالسماع من مؤمني بني إسرائيل، وقوله ‏{‏ولا تكونن من الذين كذبوا‏}‏ الآية، مما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم والمراد سواه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولهذا فائد، ليس في مخاطبة الناس به وذلك شدة التخويف لأنه إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر من مثل هذا فغيره من الناس أولى أن يحذر ويتقي على نفسه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 98‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏96‏)‏ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏97‏)‏ فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ‏(‏98‏)‏‏}‏

جاء في هذا تحذير مردود وإعلام بسوء حال هؤلاء المحتوم عليهم، والمعنى أن الله أوجب لهم سخه في الأزل وخلقهم لعذابه فلا يؤمنون، ولو جاءهم كل بيان وكل وضوح إلا في الوقت الذي لا ينفعهم فيه إيمان، كما صنع فرعون وأشباهه من الخلق وذلك وقت المعاينة، وفي ضمن الألفاظ التحذير من هذه الحال وبعث الكل على المبادرة إلى الإيمان والفرار من سخط الله، وقرأ أبو عمرو وعاصم والحسن وأبو رجاء «كلمة» بالإفراد، وقرأ نافع وأهل المدينة «كلمات» بالجمع، وقد تقدم ذكر هذه الترجمة، وقوله ‏{‏فلولا كانت قرية آمنت‏}‏ الآية، في مصحف أبيّ وابن مسعود «فهلا» والمعنى فيهما واحد، وأصل «لولا» في الكلام التحضيض أو الدلالة على منع أمر لوجود غيره، فأما هذه فبعيدة عن هذه الآية لكنها من جملة التي هي للتحضيض بها، أن يكون المحضض يريد من المخاطب فعل ذلك الشيء الذي يخصه عليه، وقد تجيء «لولا»، وليس من قصد المخاطب أن يحض المخاطب على فعل ذلك الشيء فتكون حينئذ لمعنى توبيخ كقول جرير‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

لولا الكمي المقنعا *** وذلك أنه لم يقصد حضهم على عقر الكمي، كقولك لرجل قد وقع في أمر صعب‏:‏ لولا تحرزت، وهذه الآية من هذا القبيل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومفهوم من معنى الآية نفى إيمان أهل القرى، ومعنى الآية فهلا آمن من أهل قرية وهم على مهل لم يلتبس العذاب بهم فيكون الإيمان نافعاً في هذه الحالة، ثم استثنى قوم يونس، فهو بحسب اللفظ استثناء منقطع، وكذلك رسمه النحويون أجمع وهو بحسب المعنى متصل، لأن تقديره ما آمن من أهل قرية إلا قوم يونس والنصب في قوله ‏{‏إلا قوم‏}‏ هو الوجه، ولذلك أدخله سيبويه في باب ما لا يكون فيه إلا النصب، وكذلك مع انقطاع الاستثناء ويشبه الآية قول النابغة‏:‏

إلا الأواري *** وذلك هو حكم لفظ الآية، وقالت فرقة‏:‏ يجوز فيه الرفع وهذا اتصال الاستثناء، وقال المهدوي‏:‏ والرفع على البدل من ‏{‏قرية‏}‏ وروي في قصة قوم موسى‏:‏ أن القوم لما كفروا أوحى الله إليه‏:‏ أن أنذرهم بالعذاب الثلاثة، ففعل فقالوا‏:‏ هو رجل لا يكذب فارقبوه، فإن قام بين أظهركم فلا عليكم، وإن ارتحل عنكم فهو نزول العذاب لا شك، فلما كان الليل تزود يونس وخرج عنهم فأصبحوا فلم يجدوه فتابوا ودعوا الله وآمنوا ولبسوا المسوح وفرقوا بين الأمهات والأولاد من الناس والبهائم، والعذاب منهم فيما روي عن ابن عبّاس على ثلثي ميل، وروي عن علي ميل، وقال ابن جبير غشيهم العذاب كما يغشي الثوب القبر فرفع الله عنهم العذاب فلما مضت الثلاثة وعلم يونس أن العذاب لم ينزل قال كيف أنصرف وقد وجدوني في كذب فذهب مغاضباً كما ذكر الله في هذه الآية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وذهب الطبري إلى أن قوم يونس خصوا من بين الأمم بأن تيب عليهم من بعد معاينة العذاب ذكر ذلك عن جماعة من المفسرين وليس كذلك، والمعاينة التي لا تنفع التوبة معها هي تلبس العذب أو الموت بشخص الإنسان كقصة فرعون، وأما قوم يونس فلم يصلوا هذا الحد، وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف وعيسى بن عمر وابن وثاب والأعمش «يونِس» بكسر النون وفيه للعرب ثلاث لغات ضم النون وفتحها وكسرها وكذلك في «يوسف»، وقوله‏:‏ ‏{‏إلى حين‏}‏، يريد إلى آجالهم المفروضة في الأزل، وروي أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل ويقتضي ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم حين قال له إنه من أهل نينوى، من قرية الرجل الصالح يونس بن متى الحديث، الذي في السيرة لابن إسحاق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 101‏]‏

‏{‏وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏99‏)‏ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏100‏)‏ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏101‏)‏‏}‏

المعنى أن هذا الذي تقدم إنما كان جميعه بقضاء الله عليهم ومشيئته فيهم، ولو شاء الله لكان الجميع مؤمناً فلا تأسف أنت يا محمد على كفر من لم يؤمن بك، وادع ولا عليك فالأمر محتوم، أفتريد أنت أن تكره الناس بإدخال الإيمان في قلوبهم وتضطرهم إلى ذلك والله عز وجل قد شاء غيره‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فهذا التأويل الآية عليه محكمة أي ادع وقاتل من خالفك، وإيمان من آمن مصروف إلى المشيئة وقالت فرقة‏:‏ المعنى أفأنت تكره الناس بالقتال حتى يدخلوا في الإيمان، وزعمت أن هذه الآية في صدر الإسلام وأنها منسوخة بآية السيف، والآية على كلا التأويلين رادة على المعتزلة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلهم جميعاً‏}‏ تأكيد وهو من فصيح الكلام، و‏{‏جميعاً‏}‏ حال مؤكدة، ونحوه قوله ‏{‏لا تتخذوا إلهين اثنين‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 51‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله‏}‏ الآية، رد إلى الله تعالى وإلى أن الحول والقوة لله، في إيمان من يؤمن وكون الرجس على الكفار، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «ونجعل الرجس» بنون العظمة، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم‏:‏ «ويجعل» بالياء وقرأ الأعمش‏:‏ «ويجعل» الله الرجس «، و‏{‏الرجس‏}‏ يكون بمعنى العذاب كالرجز، ويكون بمعنى القذر والنجاسة ذكره أبو علي هنا وغيره وهو في هذه الآية بمعنى العذاب، و‏{‏لا يعقلون‏}‏ يريد آيات الله وحجج الشرع‏.‏ ومعنى» الإذن «في هذه الآية الإرادة والتقدير لذلك، فهو العلم والتمكين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل انظروا في السماوات والأرض‏}‏، هذه الآية أمر للكفار بالاعتبار والنظر في المصنوعات الدالة على الصانع وغير ذلك من آيات السماوات وأفلاكها وكواكبها وسحابها ونحو ذلك، والأرض ونباتها ومعادنها وغير ذلك، المعنى‏:‏ انظروا في ذلك بالواجب فهو ينهاكم إلى المعرفة بالله والإيمان بالله والإيمان بوحدانيته، وقرأ أبو عبد الرحمن والعامة بالبصرة،» قلِ انظروا «بكسر اللام، وقرأ نافع وأهل المدينة‏:‏» قلُ انظروا «بضم اللام، ثم أعلم في آخر الآية أن النظر في الآيات والسماع من النذر وهم الأنبياء لا يغني إلا بمشيئة الله، وأن ذلك غير نافع لقوم قد قضى الله أنهم لا يؤمنون، وهذا على أن تكون ‏{‏ما‏}‏ نافية، ويجوز أن يعد استفهاماً على جهة التقرير الذي في ضمنه نفي وقوع الغناء، وفي الآية على هذا توبيخ لحاضري رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين، وقوله‏:‏ ‏{‏الآيات والنذر‏}‏، حصر طريقي تعريف الله تعالى عباده، ويحتمل أن تكون ‏{‏ما‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وما تغني‏}‏، مفعولة بقوله ‏{‏انظروا‏}‏ معطوفة على قوله‏:‏ ‏{‏ماذا‏}‏، أي تأملوا قدر غناء الآيات والنذر عن الكفار إذا قبلوا ذلك كفعل قوم يونس فإنه يرفع بالعذاب في الدنيا والآخرة وينجي من المهلكات، فالآية على هذا تحريض على الإيمان‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وتجوز اللفظ على هذا التأويل إنما هو في قوله ‏{‏لا يؤمنون‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏102- 104‏]‏

‏{‏فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ‏(‏102‏)‏ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏104‏)‏‏}‏

هذا وعيد وحض على الإيمان، أي إذا لجوا في الكفر حل بهم العذاب، وإذا آمنوا نجوا، هذه سنة الله في الأمم الخالية، فهل عند هؤلاء غير ذلك‏.‏ وهو استفهام بمعنى التوقيف، وفي قوله ‏{‏قل فانتظروا‏}‏ مهادنة ما، وهي من جملة ما نسخه القتال، وقوله ‏{‏ننجي رسلنا‏}‏ الآية، لما كان العذاب لم تحصر مدته وكان النبي والمؤمنون بين أظهر الكفرة وقع التصريح بأن عادة الله سلفت بإنجاء رسله ومتبعيهم، فالتخويف على هذا أشد، وكلهم قرأ «ننجّي» مشددة الجيم إلا الكسائي وحفصاً عن عاصم فإنهما قرأ «ننْجِي» بسكون النون وتخفيف الجيم، وقرأ عاصم في سورة الأنبياء في بعض ما روي عنه «نُجي» بضم النون وحذف الثانية وشد الجيم، كأن النون أدغمت فيها، وهي قراءة لا وجه لها، ذكر ذلك الزجاج‏.‏ وحكى أبو حاتم نحوها عن الأعمش، وخط المصحف في هذه اللفظة «ننج» بجيم مطلقة دون ياء وكذلك قرأ الكسائي في سورة مريم ‏{‏ثم ننْجِي الذين اتقوا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 72‏]‏ بسكون النون وتخفيف الجيم، والباقون بفتح النون وشد الجيم، والكاف في قوله ‏{‏كذلك‏}‏ يصح أن تكون في موضع رفع، ويصح أن تكون في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا أيها الناس‏}‏ الآية، مخاطبة عامة للناس أجمعين إلى يوم القيامة يدخل تحتها كل من اتصف بالشك في دين الإسلام، وهذه الآية يتسق معناها بمحذوفات يدل عليها هذا الظاهر الوجيز، والمعنى إن كنتم في شك من ديني فأنتم لا تعبدون الله فاقتضت فصاحة الكلام وإيجازه اختصار هذا كله، ثم صرح بمعبوده وخص من أوصافه ‏{‏الذي يتوفاكم‏}‏ لما فيها من التذكير للموت وقرع النفوس به، والمصير إلى الله بعده والفقد للأصنام التي كانوا يعتقدونها ضارة ونافعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 107‏]‏

‏{‏وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏105‏)‏ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏106‏)‏ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏107‏)‏‏}‏

المعنى‏:‏ قيل لي‏:‏ كن من المؤمنين وأقم وجهك للدين، ثم جاءت العبارة بهذا الترتيب، و«الوجه» في هذه الآية بمعنى المنحى والمقصد، أي اجعل طريقك واعتمالك للدين والشرع، و‏{‏حنيفاً‏}‏ معناه‏:‏ مستقيماً على قول من قال، الحنف الاستقامة، وجعل تسمية المعوج القدم أحنف على جهة التفاؤل‏.‏ ومن قال الحنف الميل جعل ‏{‏حنيفاً‏}‏ ها هنا مائلاً عن حال الكفرة وطريقهم، و‏{‏حنيفاً‏}‏ نصب على الحال، وقوله ‏{‏ولا تدع‏}‏ معناه قيل لي‏:‏ ‏{‏ولا تدع‏}‏ فهو عطف على ‏{‏أقم‏}‏، وهذا الأمر والمخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم إذا كانت هكذا فإحرى أن يتحرز من ذلك غيره، وما لا ينفع ولا يضر هو الأصنام والأوثان، والظالم الذي يضع الشيء في غير موضعه، وقوله ‏{‏وإن يمسسك الله بضر‏}‏ الآية، مقصد هذه الآية أن الحول والقوة لله، ويبين ذلك للناس بما يحسونه من أنفسهم، و«الضر» لفظ جامع لكل ما يكرهه الإنسان كان ذلك في ماله أو في بدنه، وهذه الآية مظهرة فساد حال الأصنام، لكن كل مميز أدنى ميز يعرف يقيناً أنها لا تكشف ضرّاً ولا تجلب نفعاً، وقوله ‏{‏وإن يردك بخير‏}‏ لفظ تام العموم، وخصص النبي صلى الله عليه وسلم الفقه بالذكر في قوله «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» وهو على جهة التشريف للفقه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الغفور الرحيم‏}‏ ترجية وبسط ووعد ما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏108- 109‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏108‏)‏ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏109‏)‏‏}‏

هذه مخاطبة لجميع الكفار مستمرة مدى الدهر، ‏{‏الحق‏}‏ هو القرآن والشرع الذي جاء به محمد، ‏{‏فمن اهتدى‏}‏، أي اتبع الحق وتدين به فإنما يسعى لنفسه لأنه يوجب لها رحمة الله، ويدفع عذابه، ‏{‏ومن ضل‏}‏ أي حاد عن طريق الحق ولم ينظر بعين الحقيقة وكفر بالله عز وجل فيضل ذلك، وقوله ‏{‏وما أنا عليكم بوكيل‏}‏، أي لست بآخذكم ولا بد بالإيمان وإنما أنا مبلغ، وهذه الآية منسوخة بالقتال، وقوله ‏{‏واتبع ما يوحى إليك‏}‏ الآية معناه‏:‏ اتبع ما رسمه لك شرعك وما أعلمك الله به من نصرته لك، ‏{‏واصبر‏}‏ على شقاء الرسالة وما ينالك في الله من الآذى، وقوله ‏{‏حتى يحكم الله‏}‏ وعد للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يغلبهم- كما وقع- تقتضيه قوة اللفظ، وهذا الصبر منسوخ بالقتال، وهذه السورة مكية وقد تقدم ذكر هذا في أولها‏.‏

سورة هود

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ‏(‏1‏)‏ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ‏(‏2‏)‏ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ‏(‏3‏)‏ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

تقدم استيعاب القول في الحروف المقطعة في أوائل السور، وتختص هذه بأن قيل إن الرحمن فرقت حروفه فيها وفي ‏{‏حم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 1، فصلت‏:‏ 1، الشورى‏:‏ 1، الزخرف‏:‏ 1، الدخان‏:‏ 1، الجاثية‏:‏ 1، الأحقاف‏:‏ 1‏]‏ وفي ‏{‏ن والقلم‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 1‏]‏‏.‏

و ‏{‏كتاب‏}‏ مرتفع على خبر الابتداء، فمن قال الحروف إشارة إلى حروف المعجم كانت الحروف المبتدأ، ومن تأول الحروف غير ذلك كان المبتدأ «هذا كتاب»؛ والمراد بالكتاب القرآن‏.‏

و ‏{‏أحكمت‏}‏ معناه أتقنت وأجيدت شبه تحكم الأمور المتقنة الكاملة، وبهذه الصفة كان القرآن في الأزل ثم فصل بتقطيعه وتنويع أحكامه وأوامره على محمد صلى الله عليه وسلم في أزمنة مختلفة ف ‏{‏ثم‏}‏ على بابها، وهذه طريقة الإحكام والتفصيل إذ الإحكام صفة ذاتية، والتفصيل إنما هو بحسب من يفصل له، والكتاب بأجمعه محكم مفصل والإحكام الذي هو ضد النسخ والتفصيل الذي هو خلاف الإجمال إنما يقالان مع ما ذكرناه باشتراك‏.‏ وحكى الطبري عن بعض المتأولين‏:‏ أحكمت بالأمر والنهي وفصلت بالثواب والعقاب؛ وعن بعضهم‏:‏ أحكمت من الباطل، وفصلت بالحلال والحرام ونحو هذا من التخصيص الذي هو صحيح المعنى ولكن لا يقتضيه اللفظ، وقال قوم‏:‏ ‏{‏فصلت‏}‏ معناه فسرت، وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري وابن كثير- فيما روي عنه-‏:‏ «ثم فَصَلَت» بفتح الفاء والصاد واللام، ويحتمل ذلك معنيين‏:‏ أحدهما‏:‏ «فَصَلَت» أي نزلت إلى الناس كما تقول فصل فلان لسفره ونحو هذا المعنى، والثاني فَصَلَت بين المحق والمبطل من الناس‏.‏

و ‏{‏من لدن‏}‏ معناها من حيث ابتدئت الغاية، كذا قال سيبويه وفيها لغات‏:‏ يقال‏:‏ لدُن ولدْن بسكون الدال وقرئ بهما‏.‏ ‏{‏من لدن‏}‏، ويقال‏:‏ «لَدُ»‏:‏ بفتح اللام وضم الدال دون نون، ويقال «لدا» بدال منونة مقصورة‏.‏ ويقال «لَدٍ» بدال مكسورة منونة، حكى ذلك أبو عبيدة‏.‏

و ‏{‏حكيم‏}‏ أي محكم، و‏{‏خبير‏}‏ أي خبرة بالأمور أجمع، ‏{‏أن لا تعبدوا‏}‏ ‏{‏أن‏}‏ في موضعع نصب إما على إضمار فعل وإما على تقدير ب «أن» وإسقاط الخافض، وقيل على البدل من موضع الآيات، وهذا معترض ضعيف لأنه موضع للآيات، وإن نظر موضع الجملة فهو رفع‏:‏ ويحتمل أن تكون في موضع رفع على تقدير‏:‏ تفصيله ألا تعبدوا وقيل‏:‏ على البدل من لفظ الآيات‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنني لكم منه نذير وبشير‏}‏ أي من عقابه وبثوابه‏:‏ وإذا أطلقت هاتان اللفظتان فالنذارة في المكروه والبشارة في المحبوب وقدم النذير لأن التحذير من النار هو الأهم و‏{‏إن‏}‏ معطوفة على التي قبلها‏.‏

ومعنى الآية‏:‏ استغفروا ربكم أي اطلبوا مغفرته لكم وذلك بطلب دخولكم في الإسلام ثم توبوا من الكفر أي انسلخوا منه واندموا على سالفه‏.‏ و‏{‏ثم‏}‏ مرتبة لأن الكافر أول ما ينيب فإنه في طلب مغفرة ربه فإذا تاب وتجرد من الكفر تم إيمانه‏.‏

وقرأ الجمهور «يمتّعكم» بشد التاء، وقرأ ابن محيصن «يمْتعكم» بسكون الميم وتخفيف التاء، وفي كتاب أبي حاتم‏:‏ «إن هذه القراءات بالنون»، وفي هذا نظر‏.‏، و‏{‏متاعاً‏}‏ مصدر جار على غير الفعل المتقدم مثل قوله ‏{‏والله أنبتكم من الأرض نباتاً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 17‏]‏ وقيل نصب بتعدي ‏{‏يمتعكم‏}‏ لأنك تقول‏:‏ متعت زيداً ثوباً‏.‏ ووصف المتاع «بالحسن» إنما هو لطيب عيش المؤمن برجائه في الله عز وجل وفي ثوابه وفرحه بالتقرب إليه بمفترضاته والسرور بمواعيده والكافر ليس في شيء من هذا، وأما من قال بأن «المتاع الحسن» هو فوائد الدنيا وزينتها فيضعف بين الكفرة يتشاركون في ذلك أعظم مشاركة و«الأجل المسمى»‏:‏ هو أجل الموت معناه ‏{‏إلى أجل مسمى‏}‏ لكل واحد منكم، وهذا ظاهر الآية‏:‏ و«اليوم الكبير»- على هذا- هو يوم القيامة‏.‏

وتحتمل الآية أن يكون التوعد بتعجيل العذاب إن كفروا، والوعد بتمتيعهم إن آمنوا، فتشبه ما قاله نوح عليه السلام، و«اليوم الكبير»- على هذا- يوم بدر ونحوه والمجهلة في أي الأمرين يكون إنما هي بحسب البشر والأمر عند الله تعالى معلوم والأجل واحد‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويؤت كل ذي فضل فضله‏}‏ أي كل ذي إحسان بقوله، أو بفعله، أو قوته، أو بماله، أو غير ذلك، مما يمكن أن يتقرب به و‏{‏فضله‏}‏ يحتمل أن يعود الضمير فيه على الله عز وجل أي يؤتي الله فضله كل ذي فضل وعمل صالح من المؤمنين وهذا المعنى ما وعد به تعالى وتضعيف الحسنة بعشر أمثالها ومن التضعيف غير المحصور لمن شاء، وهذا التأويل تأوله ابن مسعود وقال‏:‏ ويل لمن غلبت آحاده عشراته‏.‏ ويحتمل أن يكون قول ابن مسعود موافقاً للمعنى الأول‏.‏

وقرأ جمهور «وإن تَولّوا» بفتح التاء واللام، فبعضهم قال الغيبة، أي فقل لهم‏:‏ إني أخاف عليكم، وقال بعضهم معناه فإن تتولوا فحذفت التاء والآية كلها على مخاطبة الحاضر، وقرأ اليماني وعيسى بن عمر‏:‏ «وإن تُولُوا»، بضم التاء واللام وإسكان الواو‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير‏}‏‏.‏ توعد بيوم القيامة‏:‏ ويحتمل أن يريد به يوماً من الدنيا كبدر وغيره‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلى الله مرجعكم‏}‏ توعد، وهو يؤيد أن «اليوم الكبير» يوم القيامة لأنه توعد به، ثم ذكر الطريق إليه من الرجوع إلى الله، والمعنى إلى عقاب الله وجزائه لكم رجوعكم وهو القادر الذي لا يضره شيء ولا يجير عليه مجير ولا تنفع من قضائه واقية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏على كل شيء‏}‏ عموم والشيء في اللغة الموجود وما يتحقق أنه يوجد كزلزلة الساعة وغيرها التي هي أشياء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏5‏)‏ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قيل إن هذه الآية نزلت في الكفار الذين كانوا إذا لقيهم رسول الله عليه وسلم تطامنوا وثنوا صدورهم كالمستتر وردوا إليه ظهورهم وغشوا وجوههم بثيابهم تباعداً منه وكراهة للقائه، وهم يظنون أن ذلك يخفى عليه وعلى الله عز وجل فنزلت الآية في ذلك‏.‏

و ‏{‏صدورهم‏}‏ منصوبة على هذا ب ‏{‏يثنون‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ هي استعارة للغل والحقد الذي كانوا ينطوون عليه كما تقول‏:‏ فلان يطوي كشحه على عداوته، ويثني صدره عيلها‏.‏

فمعنى الآية‏:‏ ألا إنهم يسرون العداوة ويتكتمون بها لتخفى في ظنهم عن الله، وهو تعالى حين تغشيهم بثيابهم وإبلاغهم في التستر يعلم ما يسرون‏.‏

وقرأ سعيد بن جبير «يُثنُون» بضم الياء والنون من أثنى، وقرأ ابن عباس «ليثنوه»، وقرأ ابن عباس أيضاً ومجاهد وابن يعمر وابن بزي ونصر بن عاصم والجحدري وابن إسحاق وابن رزين وعلي بن الحسين وأبو جعفر محمد بن علي ويزيد بن علي وجعفر بن محمد وأبو الأسود والضحاك‏.‏ «تثنوني صدورُهم» برفع الصدور وهي تحتمل المعنيين المتقدمين في ‏{‏يثنون‏}‏ وزنها تفوعل على بناء مبالغة لتكرار الأمر، كما تقول اعشوشبت الأرض واحلولت الدنيا ونحو ذلك‏.‏ وحكى الطبري عن ابن عباس على هذه القراءة أن هذه الآية نزلت في أن قوماً كانوا لا يأتون النساء والحدث إلا ويتغشون ثيابهم كراهية أن يفضوا بفروجهم إلى السماء‏.‏ وقرأ ابن عباس- فيما روى ابن عيينة- «تثنو» بتقديم الثاء على النون وبغير نون بعد الواو، وقال أبو حاتم هذه القراءة غلط لا تتجه، وقرأ نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق «ينثوي» بتقديم النون على الثاء، وقرأ عروة وابن أبي أبزى والأعشى «تثنَون» بثاء مثلثة بعدها نون مفتوحة بعدها واو مكسورة، وقرأ أيضاً هما ومجاهد فيما روي عنه «تثنان» بهمزة بدل الواو وهاتان مشتقة من الثن وهي العشب المثني بسهولة، فشبه صدورهم به إذ هي مجيبة إلى هذا الانطواء على المكر والخدع‏:‏ وأصل «تثنون» تثنونن سكنت النون المكسورة ونقلت حركتها إلى الواو التي قبلها وأدغمت في النون التي بعدها، وأما «تثنان» فأصلها تثنان مثل تحمار ثم قالوا‏:‏ اثنانت كما قالوا احمار وابياض، والضمير في ‏{‏منه‏}‏ عائد على الله تعالى، هذا هو الأفصح الأجزل في المعنى وعلى بعض التأويلات يمكن أن يعود على محمد صلى الله عليه وسلم، و‏{‏يستغشون‏}‏ معناه يجعلونها أغشية وأغطية ومنه قول الخنساء‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

أرعى النجوم وما كلّفت رعيتها *** وتارة اتَغَشَّى فضل أطماري

وقرأ ابن عباس «على حين يستغشون» ومن هذا الاستعمال قول النابغة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

على حين عاتبت المشيب على الصبا *** وقلت ألمّا أصحُ والشيبُ وازع

و ‏{‏ذات الصدور‏}‏‏:‏ ما فيها، والذات تتصرف في الكلام على وجوه هذا أحدهما كقول العرب الذيب مغبوط بذي بطنه أي بالذي فيه من النفخ وكقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه‏:‏ إنما هو ذو بطن بنت خارجة، والذات التي هي حقيقة الشيء ونفسه قلقة في هذا الموضع؛ ويحتمل أن يفرق بين ذي بطنه وبين الذات وإنما يجمع بينهما المعنى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما من دابة‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، تماد في وصف الله تعالى بنحو قوله ‏{‏يعلم ما يسرون وما يعلنون‏}‏‏.‏ و«الدابة» ما دب من الحيوان، والمراد جميع الحيوان الذي يحتاج إلى رزق ويدخل في ذلك الطائر والهوام وغير ذلك كلها دواب، وقد قال الأعشى‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

نياف كغصن البان ترتج إن مشت *** دبيب قطا البطحاء في كل منهل

وقال علقمة بن عبيدة لطيرهن دبيب وفي حديث أبي عبيدة‏:‏ فإذا دابة مثل الظرب يريد من حيوان البحر، وتخصيصه بقول ‏{‏في الأرض‏}‏ إنما هو لأنه الأقرب لحسهم‏:‏ والطائر والعائم إنما هو في الأرض، وما مات من الحيوان قبل أن يتغذى فقد اغتذى في بطن أمه بوجه ما‏.‏

وهذه الآية تعطي أن الرزق كل ما صح الانتفاع به خلافاً للمعتزلة في قولهم إنه الحلال المتملك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏على الله‏}‏ إيجاب لأنه تعالى لا يجب عليه شيء عقلاً‏.‏ و«المستقر»‏:‏ صلب الأب‏:‏ و«المستودع» بطن الأم، وقيل «المستقر»‏:‏ المأوى، و«المستودع» القبر، وهما على هذا الطرفان، وقيل «المستقر»، ما حصل موجوداً من الحيوان، والمستودع ما يوجد بعد‏.‏ قال القاضي أبو محمد‏:‏ و«المستقر» على هذا- مصدر استقر وليس بمفعول كمستودع لأن استقر لا يتعدى‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏في كتاب‏}‏ إشارة إلى اللوح المحفوظ‏.‏ وقال بعض الناس‏:‏ هذا مجاز وهي إشارة إلى علم الله‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف وحمله على الظاهر أولى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏7‏)‏ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قال أكثر أهل التفسير‏:‏ «الأيام» هي من أيام الدنيا، وقالت فرقة‏:‏ هي من أيام الآخرة يوم من ألف سنة‏.‏ قاله كعب الأحبار، والأول أرجح‏.‏

وأجزاء ذكر السماوات عن كل ما فيها إذ كل ذلك خلق في الستة الأيام، واختلفت الأحاديث في يوم بداية الخلق، فروي أبو هريرة- فيما أسند الطبري- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال‏:‏ «خلق الله التربة يوم السبت والجبال يوم الأحد، والشجر يوم الاثنين والمكروه يوم الثلاثاء، والنور يوم الأربعاء، وبث الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة»، ونحو هذا من أن البداءة يوم السبت في كتاب مسلم، وفي الدلائل لثابت‏:‏ وكان خلق آدم في يوم الجمعة، لا يعتد به إذ هو بشر كسائر بنيه، ولو اعتد به لكانت الأيام سبعة خلاف ما في كتاب الله، وروي عن كعب الأحبار أنه قال‏:‏ بدأ الله خلق السماوات والأرض يوم الأحد، وفرغ يوم الجمعة، وخلق آدم في آخر ساعة منه‏.‏ ونحو هذا في جل الدواوين أن البدأة يوم الأحد، وقال قوم‏:‏ خلق الله تعالى هذه المخلوقات في ستة أيام مع قدرته على خلقها في لحظة‏.‏ نهجاً إلى طريق التؤدة والمهلة في الأعمال ليحكم البشر أعمالهم، وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ كان العرش على الماء، وكان الماء على الريح‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليبلوكم‏}‏ متعلق ب ‏{‏خلق‏}‏ والمعنى أن خلقه إياها كان لهذا وقال بعض الناس‏:‏ هو متعلق بفعل مضمر تقديره أعلم بذلك ليبلوكم، ومقصد هذا القائل‏:‏ أن هذه المخلوقات لم تكن لسبب البشر‏.‏

وقرأ عيسى الثقفي‏:‏ «ولئن قلتُ» بضم التاء، وقرأ الجمهور «قلتَ» بفتح التاء‏.‏

ومعنى الآية‏:‏ أن الله عز وجل هذه صفاته وهؤلاء بكفرهم في حيز إن قلت لهم‏:‏ إنهم مبعوثون كذبوا وقالوا‏:‏ هذا سحر‏.‏ أي فهذا تناقض منكم إذ كل مفطور يقر بأن الله خالق السماوات والأرض، فهم من جملة المقرين بهذا، ومع ذلك ينكرون ما هو أيسر منه بكثير وهو البعث من القبور إذ البداءة أعسر من الإعادة، وإذ خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس‏.‏

واللام في ‏{‏لئن‏}‏ مؤذنة بأن اللام في ‏{‏ليقولن‏}‏ لام قسم لا جواب شرط‏.‏

وقرأ الأعرج والحسن وأبو جعفر وشيبة وفرقة من السبعة «سحر» وقرأت فرقة «ساحر» وقد تقدم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن أخرنا عنهم العذاب‏}‏ الآية، المعنى‏:‏ ولئن تأخر العذاب الذي توعدتم به عن الله قالوا ما هذا الحابس لهذا العذاب‏؟‏ على جهة التكذيب‏.‏ و«الأمة» في هذه الآية‏:‏ المدة كما قال ‏{‏وادكر بعد أمة‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 45‏]‏‏.‏ قال الطبري سميت بذلك المدة لأنها تمضي فيها أمة من الناس وتحدث فيها أخرى، فهي على هذه المدة الطويلة‏.‏

ثم استفتح بالإخبار عن أن هذا العذاب يوم يأتي لا يرده ولا يصرفه‏.‏ و‏{‏حاق‏}‏ معناه‏:‏ حل وأحاط وهي مستعملة في المكروه و‏{‏يوم‏}‏ منتصب بقوله‏:‏ ‏{‏مصروفاً‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 11‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ ‏(‏9‏)‏ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ‏(‏10‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏أذقنا‏}‏ ها هنا مستعارة، لأن «الرحمة» ها هنا تعم جميع ما ينتفع به من مطعوم وملبوس وجاه وغير ذلك‏.‏ و‏{‏الإنسان‏}‏ ها هنا اسم الجنس والمعنى أن هذا الخلق في سجية الناس، ثم استثنى منهم الذين ردتهم الشرائع والإيمان إلى الصبر والعمل الصالح‏.‏

و ‏{‏يؤوس‏}‏ و‏{‏كفور‏}‏ بناءان للمبالغة، و‏{‏كفور‏}‏ ها هنا من كفر النعمة، والمعنى أنه ييأيس ويحرج ويتسخط، ولو نظر إلى نعمة الله الباقية عليه في عقله وحواسه وغير ذلك، ولم يكفرها لم يكن ذلك، فإن اتفق هذا أن يكون في كافر أيضاً بالشرع صح ذلك ولكن ليس من لفظ الآية‏.‏

وقال بعض الناس في هذه الآية‏:‏ ‏{‏الإنسان‏}‏ إنما يراد به الكافر وحمله على ذلك لفظة ‏{‏كفور‏}‏، وهذا عندي مردود، لأن صفة الكفر لا تطلق على جميع الناس كما تقتضي لفظة الإنسان‏.‏

و «النعماء» تشمل الصحة والمال ونحو ذلك و«الضراء» من الضر وهو أيضاً شامل‏.‏ وقد يكثر استعمال الضراء فيما يخص البدن‏.‏

ولفظة ‏{‏ذهب السيئات عني‏}‏ تقتضي بطراً وجهلاً أن ذلك بإنعام من الله، واعتقاد أن ذلك اتفاق أو بسعد من الاعتقادات الفاسدة، وإلا فلو قالها من يعتقد أن ذهابها بإنعام من الله وفضل، لم يقع ذلك‏.‏

و ‏{‏السيئات‏}‏ ها هنا كل ما يسوء في الدنيا‏.‏

وقرأت فرقة «لفرِح» بكسر الراء، وقرأت فرقة‏:‏ لفرُح «بضمها، وهذا الفرح مطلق، ولذلك ذم، إذ الفرح انهمال النفس‏:‏ ولا يأتي الفرح في القرآن ممدوحاً إلا إذا قيد بأنه في خير‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين صبروا‏}‏ الآية هذا الاستثناء متصل على ما قدمناه من أن الإنسان عام يراد به الجنس‏:‏ ومن قال إنه مخصوص بالكافر قال هاهنا‏:‏ إن الاستثناء منقطع، وهو قول ضعيف من جهة المعنى وأما من جهة اللفظ فجيد، وكذلك قاله من النحاة قوم‏.‏

واستثنى الله تعالى من الماشين على سجية الإنسان هؤلاء الذين حملتهم الأديان على الصبر على المكاره ومثابرة عبادة الله‏:‏ وليس شيء من ذلك في سجية البشر وإنما حمل على ذلك حب الله وخوف الدار الآخرة‏.‏ و» الصبر «و» العمل الصالح «لا ينفع إلا مع هداية وإيمان، ثم وعد تعالى أهل هذه الصفة تحريضاً عليها وحضاً، بالمغفرة للذنوب والتفضل بالأجر والنعيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ‏(‏12‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

سبب هذه الآيات أن كفار قريش قالوا‏:‏ يا محمد لو تركت سب آلهتنا وتسفيه آبائنا لجالسناك واتبعناك‏.‏ وقالوا‏:‏ ائت بقرآن غير هذا أو بدله، ونحو هذا من الأقوال‏.‏ فخاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على هذه الصورة من المخاطبة، ووقفه بها توقيفاً راداً على أقوالهم ومبطلاً لها، وليس المعنى أنه صلى الله عليه وسلم هم بشيء من ذلك فزجر عنه، فإنه لم يرد قط ترك شيء مما أوحي إليه، ولا ضاق صدره، وإنما كان يضيق صدره بأقوالهم وأفعالهم وبعدهم عن الإيمان‏.‏

و ‏{‏لعلك‏}‏ ها هنا بمعنى التوقيف والتقرير، و‏{‏ما يوحى إليك‏}‏ هو القرآن والشريعة والدعاء إلى الله تعالى كأن في ذلك سب آلهتهم وتسفيه آبائهم أو غيره؛ ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد عظم عليه ما يلقى من الشدة فمال إلى أن يكون من الله تعالى إذن في مساهلة الكفار بعض المساهلة ونحو هذا من الاعتقادات التي تليق به صلى الله عليه وسلم، كما جاءت آيات الموادعة‏.‏ وعبر ب ‏{‏ضائق‏}‏ دون ضيق للمناسبة في اللفظ مع ‏{‏تارك‏}‏، وإن كان ضيق أكثر استعمالاً لأنه وصف لازم، و‏{‏ضائق‏}‏ وصف عارض فهو الذي يصلح هنا، والضمير في ‏{‏به‏}‏ عائد على «البعض»، ويحتمل أن يعود على «ها» و«أن» في موضع نصب على تقدير كراهة أن و«الكنز» ها هنا‏:‏ المال وهذا طلبهم آية تضطر إلى الإيمان‏:‏ والله تعالى لم يبعث الأنبياء بآيات اضطرار وإنما بعثهم بآيات النظر والاستدلال، ولم يجعل آية الاضطرار إلا للأمم التي قدر تعذيبها لكفرها بعد آية الاضطرار، كالناقة لثمود‏.‏

ثم أنسه تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏إنما أنت نذير‏}‏، أي هذا القدر هو الذي فوض إليك، والله تعالى بعد ذلك هو الوكيل الممضي لإيمان من شاء وكفر من شاء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم يقولون‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، هذه ‏{‏أم‏}‏ التي هي عند سيبويه بمعنى بل وألف الاستفهام، كأنه أضرب عن الكلام الأول، واستفهم في الثاني على معنى التقرير، كقولهم‏:‏ إنها لإبل أم شاء، و«الافتراء أخص من الكذب، ولا يستعمل إلا فيما بهت به المرء وكابر، وجاء بأمر عظيم منكر، ووقع التحدي في هذه الآية ‏{‏بعشر‏}‏ لأنه قيدها بالافتراء، فوسع عليهم في القدر لتقوم الحجة غاية القيام، إذ قد عجزهم في غير هذه الآية

‏{‏بسورة من مثله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 23، يونس‏:‏ 38‏]‏ دون تقييد فهذه مماثلة تامة في غيوب القرآن ومعانيه الحجة، ونظمه ووعده ووعيده وعجزوا في هذه الآية بل قيل لهم عارضوا القدر منه بعشر أمثاله في التقدير والغرض واحد واجعلوه مفترى لا يبقى لكم إلا نظمه فهذه غاية التوسعة؛ وليس المعنى عارضوا عشر سور بعشر، لأن هذه إنما كانت تجيء معارضة سورة بسورة مفتراة ولا تبالي عن تقديم نزول هذه على هذه‏:‏ ويؤيد هذا النظر أن التكليف في آية البقرة إنما هو بسبب الريب، ولا يزيل الريب إلا العلم بأنهم لا يقدرون على المماثلة التامة؛ وفي هذه الآية إنما التكليف بسبب قولهم ‏{‏افتراه‏}‏ فكلفوا نحو ما قالوا‏:‏ ولا يطرد هذا في آية يونس‏.‏ وقال بعض الناس‏:‏ هذه مقدمة في النزول على تلك، ولا يصح أن يعجزوا في واحدة فيكلفوا عشراً؛ والتكليفان سواء، ولا يصح أن تكون السورة الواحدة إلا مفتراة وآية سورة يونس في تكليف سورة متركبة على قولهم‏:‏ ‏{‏افتراه‏}‏ وكذلك آية البقرة وإنما ريبهم بأن القرآن مفترى‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقائل هذا القول لم يلحظ الفرق بين التكليفين‏:‏ في كمال المماثلة مرة، ووقوفها على النظم مرة‏.‏

و ‏{‏من‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من استطعتم‏}‏ يراد بها الآلهة والأصنام والشياطين وكل ما كانوا يعظمونه، وقوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ يريد في أن القرآن مفترى‏.‏